ديمقراطية العراق بين العقد الاجتماعي واتفاق الأطراف( المحاصصة)

 


نبيل ياسين

 اكبر مرحلة ارهاب فكري وقمع للرأي نعيشها هي المرحلة الحالية ' حتى بانت ملامحها في دول اوروبا ) ، فقد اتسعت جيوش الكراهية ونشر العنف وتخوين الرأي , وعودة العنصرية تحت مسوغات عديدة، واستهداف الطابع الانساني للثقافات العالمية، وهي جيوش نظامية وجيوش احتياط وجيوش وهمية ايضا، جنرالات اجهزة امنية واستخبارية يوجهون تلك الأصناف ضد اي رأي مخالف كأن البشر يجب ان يمتلكوا رأيا واحدا وفكرة واحدة كما هي الفاشية التي تعمل على إبادة اية فكرة غيرها.

في الأنظمة الفاشية والديكتاتورية لا يوجد عقد اجتماعي. ولايوجد عقد اجتماعي فعال في مجتمع منقسم على نفسه ومتعادٍ بين اعضائه . فالعقد الاجتماعي هو عقد الجميع مع الجميع ليتصالح المجتمع مع نفسه وهو عقد المجتمع( الجميع) مع دولة تدير السلطة السياسية من اجل حماية حقوق ومصالح المجتمع نفسه. اي ان العقد الاجتماعي ينهي الانقسامات والمنازعات السياسية والقومية والدينية والثقافية. ومن هنا تنشأ الدولة كمنظمة تحد من المنازعات .لذلك تكون المحاصصة واتفاق الاطراف لتوزيع غنائم السلطة نفيا للعقد الاجتماعي وتعطيلا لوظيفته كما هو الحال في العراق الآن. وهذه المحاصصة واتفاق الاطراف من شأنهما اثارة جميع انواع النزاعات واستخدامها للحصول على المغانم من قبل الاطراف المتخاصمة مع اثارة الابتزاز والتهديد باستمرار.

في ظل هذا الارهاب الفكري نبدو وكأننا لسنا نحن ، او كأننا نحن ، ولكننا واقعين تحت تخدير خارجي ، نبدو في هذه الكراهية وهذا العنف وكأننا بعنا الوطن وبعنا وطنيتنا ولم يبق بيننا من المباديء شيء ، والامة التي تعيش بدون مبادئ هي امة تبيع نفسها لأعدائها وهي تعتقد انها تدافع عن نفسها ، وكثيرون مع الاسف باعوا وطنهم الى الدول الاخرى حتى صح فيه قول الشاعر

 

منعَلّمَ الأسْوَدَ المَخصِيّ مكرُمَةً

أقَوْمُهُ البِيضُ أمْ آبَاؤهُ الصِّيدُ   أمْ أُذْنُهُ في يَدِ النّخّاسِ دامِيَةً

أمْ قَدْرُهُ وَهْوَ بالفِلْسَينِ مَرْدودُ

 

بحيث ينسون عار بلد يصبح فيه مهرب اغنام سارق وجاهل زعيما وربما نائبا لرئيس جمهورية لان دولا اخرى غير العراق أهلته ودعمته وصنعت منه قائدا، ويتم تسويق ابله وبلا تاريخ او مؤهلات زعيما حكوميا فيما يتم نسيان وطن بأكمله غارقا بوحل الفساد والجهل والخراب وانعدام الامن والخدمات والسيادة ووطنية القرار ونسيان مصالح البلاد

 

يعمل العقد الاجتماعي بصفته توكيلا من الشعب لهيئة منظمة اسمها الدولة التي تحافظ الحكومة على استمرارها لحماية مصالح وحقوق الشعب الذي اعطاها توكيلا بذلك ، لذلك كان العقد الاجتماعي عند جون لوك في المقالة الثانية عن الحكومة هو حماية الملكية الخاصة

اذن ، يعقد العقد الاجتماعي ليقوم بعدة مهام من اجل حماية حقوق ومصالح المجتمع ومنها تحقيق العدالة( بما فيها تكافؤ الفرص امام الجميع) والمساواة ( بما في ذلك منع احتكار المناصب والوظائف العامة ) عبر احترام سيادة القانون وتجريم الفساد باعتباره سرقة لاموال الشعب يحاكم عليها القانون

لصوص العراق يسكنون في بيت العراق، خونة العراق يسكنون في بيت العراق ، الاعلام المعادي للعراق يسكن في بيت العراق، الباعة المتجولون الذي ينادون لبيع العراق يسيرون في شوارع العراق.

 

سياسيو العراق انتهكوا العقد الاجتماعي بينهم وبين الشعب ولذلك لايحق لهم اجراء تعديلات على الدستور تضمن مصالحهم وتضر بمصالح المواطنين، المواطنون شركاء بالعقد الاجتماعي ، وأي تعديل على الدستور يجب ان يكونوا طرفا فيه.

 

الفرد العراقي كائن سياسي ، كائن حزبي وان لم يكن حزبيا منتميا، لكن عواطفه منتمية ، وايديولوجيته منتمية، ووجدانه منتم ومتعصب، وهذا تاريخه وتراثه اللذين صنعتهما حقب القمع والقهر والظلم، ولذلك فانه يتسم بالقسوة حتى على نفسه وأخيه، ويلوذ باقرب وحدة سياسية كالحزب او اجتماعية كالعشيرة ، او دينية كالطائفة ، ان تاريخ العنف في العراق تاريخ ديني ومذهبي وسياسي معجون بطباع الشراسة البدوية والجبلية وغير المتحضرة. وهكذا نرى الصراع بين الجنوب السهلي المنبسط المنتج للحضارة والثقافة والاديان والتيارات والفكر والتقاليد اللينة ، قبل ان تجتاح المجموعات الشرسة هذه المناطق، حتى ان اخر ملوك بابل ، الملك نبونيدو ، اضطر لقيادة حملة بابلية ضخمة لصد هجمات الاعراب في تيماء وما حولها ، المتكررة ضد بابل. ان القبائل العربية من مدن الحجاز وما جاورها قد ساهمت في حياة المدينة خاصة في الكوفة والبصرة ، اللتين تملكان اساسا ارثا ثقافيا وفكريا من المدارس النسطورية واليهودية بحيث ان ( عين التمر) كانت حاضرة فكرية تضم اكبر مدرستين تعليميتين قبل ان يدمرها خالد بن الوليد في الغزوة الاولى للعراق في خلافة ابي بكر وقبل ان ينقله ابن خالته الخليفة عمر بن الخطاب الى الشام بسبب الدموية المرعبة التي مارسها في ابادات جماعية غير مبررة للعراقيين ، اذ كان يقتل حتى من يستسلم وحتى الأطفال ومن بقي يبيعه في سوق النخاسة وهناك مصطلح اسمه ( اسارى عين التمر) الذين اسرهم وباعهم خالد

ان كل ما نسميه ( الحضارة العربية- الاسلامية) هو نتاج مدني لثلاث مدن عراقية هي البصرة والكوفة وبغداد، مع مساهمة من الموصل ايضا .وقد شارك التفاعل الحضاري للعراق مع حضارات الشرق في مد الحضارة العربية والاسلامية بموجات ثقافية وحرفية وفكرية عديدة. وفي احصائية للمستشرق كلود كاهن( أوردتها في كتابي الاصول الاجتماعية والفكرية للتيارات الاسلامية المعاصرة الصادر عام ١٩٩٤) بعد ان درس حالة مئات المثقفين في تاريخ الاسلام وعلاقتهم بالسلطة اتضح ان ٦٪‏ فقط من المثقفين كانوا يعملون في السلطة مثل الخطاطين والوزراء والقضاة والكتاب ومن تبقى كان يمتهن حرفا حرة كالحلاج والزجّاج والنساج والبزاز( ابو حنيفة كان برازا وتاجرا للقماش) والحلوائي والفراء والنساخ والوراق والتمار ( ومنهم التوحيدي الذي كان يبيع نوعا من التمر يدعى التوحيدي) والماوردي( الذي يبيع ماء الورد) والعطار وغيرها من المهن والحرف والأعمال التي ارتبطت بألقاب الاف المثقفين .

وكان في بغداد في العصر العباسي مدينة صينية ، اي ما يسمى في الغرب والولايات المتحدة China Town في سوق كان يسمى ( سوق خُضيَر) في الرصافة خاص بالبضائع الصينية.

في العقد الاخير خاصة تراجعت المعرفة وتراجعت العقلانية والثقافة والبحث وتغلبت النشوة العاطفية وملامح الشعور بالاستفزاز ، فاذا بحثنا في اتجاه العراق التاريخي الى الشرق باعتباره بلدا حضاريا مرتبطا بحضارات الهند والصين وايران والى الجنوب الغربي عن طريق الشام الى مصر بسبب وجود هذه البلدان في اطار نمط الانتاج الآسيوي المعتمد على الري ومركزية الدولة فسنجد من يحتج عاطفيا باعتبار العراق بلدا عربيا ويجب ان يفك جميع ارتباطاته التاريخية الحضارية ليتجه الى ما صار يدعوه الناس( الحضن العربي) قافزين على شروط الارتباط الجيوسياسي للعراق الممتد من اليمن جنوبا الى الشرق مع الحضارات سابقة الذكر ، وهي حضارات ليست سياسية ولا ايديولوجية وانما حضارات انتاج أنماط اجتماعية واقتصادية وثقافية ذات طابع عالمي حتى اليوم

 

أحدث أقدم