قصة الخورنق القصر الذي كانت جائزة مهندسه الإعدام

 



بقلم :عبد الزهرة الفتلاوي

يعد قصر الخورنق  واحدا من أشهر قصور دولة الحيرة وتروى في أسباب بنائه روايات بعض الإخباريين الذين عزوا مهنة الاعمار والبناء إلى غير العرب، وذكر ان النعمان بن أمر القيس شيده عام 399م - استجابة لطلب الملك الفارسي يزدجرد الأول  من اجل ان يقيم فيه ولده بهرام جور ، فأودع النعمان المهمة إلى مهندس رومي يقال له سنمار، واستغرق العمل به مدة عشرين سنة، ارتبط بهذا العمل وبانيه حكاية تبرز الجانب الإبداعي في هذا البناء الذي أجاد فيه سنمار، فروي ان الأنوار كانت تتلألأ  به في الليل والنهار مع الألوان المختلفة، ففي الصباح يبدو ازرق اللون وفي الظهر ابيض، وفي العصر اصفر فأعجبوا منه حسنه وإتقانه لهذا العمل ،ويبدو لي ان هذه الالوان هي قناديل بألوان متعددة يضيئها خدم القصر بتوقيت يقرره الملك. والأمر الذي أغضب النعمان ما ذكرسنمار من انه بإمكانه ان يبني أفضل منه ولم يفعل، فأمر به النعمان فطرحه من على رأس الخورنق فهلك ، وفي رواية أخرى انه اخبر الملك بأنه يعرف موضع آجرة فيه ان انسحبت من البنيان أنهار كله فقتله النعمان  خوفاً من ان يتسرب هذا السر إلى غيرهما أو انه كره ان يعمل مثله لغيره حتى صارت نهايته التعسة مضرب المثل في سوء الجزاء يقول الاستاذ كريستنسن (ان حكاية  الآجرة التي يرتكز عليها قصر الخورنق تعد نوعا من الاساطير فلا يمكن تصور ارتكاز قصر واسع وفخم على آجرة واحدة)  وتناقل ذلك الشعر العربي، فقد ذكر في أبيات تنسب إلى عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي

جزاني جزاه الله شر جزائه

                   جزاء سنمار وما كاد ذا ذنب

 

سوى رصه البنيان عشرين حجة

                   يعل عليه بالقراميد والسكب

 

فلما رأى البنيان تم سحوقه

                   وآض مثل الطود ذو شامخ الصعب

 

فقال اقذفوا بالعلج من فوق رأسه

                   فهذا لعمر الله من أعجب الخطب

 


وعلى الرغم من إحاطة الخورنق بنصوص تاريخية لا تخلو من مبالغات ... فهو لاشك يعد مفخرة معمارية يعكس جانباً مهماً من واقع الحضارة العربية الشامخ في عصر ما قبل الإسلام ، فهو كما قيل عنه قصر عظيم  لم تر العرب مثله  فعد من غرائب الدهر ومن القصور الفخمة إذ يتألف بناؤه من عدة طوابق  , ويعكس لنا هذا الجانب ما توصل إليه الحيريون من علم ودراية في مجال الهندسة المعمارية0وذكر ان قصر الخورنق يعد مكانا للراحة والاستمتاع لملوك الحيرة بما يوفره من هدوء وسكينة فروي( ان النعمان بن امرئ القيس 390 – 418 م  اشرف ذات يوم من قصر الخورنق على النجف وما يليه من النخيل والبساتين فأعجبه ما رأى في البر من الخضرة والنور والأنهار الجارية ولقاط الكمأ ورعي الإبل وصيد الظباء والأرانب، وفي الفرات من الملاحين والغواصين وصيادي السمك وفي الحيرة من الأموال والخيول، ومن يموج فيها من رعيته ( ) .

احداث الخورنق

 

ومن احداث قصر الخورنق هو مؤتمر بلغاء العرب مع الملك النعمان بن المنذر قبل ذهابهم الى كسرى ملك فارس للتفاخر بأمجاد العرب في القصة التي ذكرناها  .

 موقع الخورنق

 

يقع(الخورنق على طرف البادية مما يلي الغرب)   بَيْنَ نَهْرِ الْفُرَاتِ ، وَالْبَرِّ ، يُشْرِفُ عَلَى النَّجَفِ)  ويقول ابو الفضائل (ان الخورنق قصر في الاراضي المجاورة للحيرة ويمكن رؤية نهر يجري قريبا جدا من جنوبه الغربي)   اما المستشرق النمساوي الاستاذ الواموزيل في رحلته الوصفية فيقول (يقع قصر الخورنق على بعد ستة كيلومترات شمال غربي ابوصخير جنوبي شرق النجف)  وفي معالم ومسميات عالم اليوم يقع قصر الخورنق في منطقة الرضوية .

قصر الخورنق في كتب التاريخ

 

ومما ذكرته كتب التأريخ عن قصر الخورنق (وحتى عام 686- 688م كان المسيحيون لايزالون يعيشون عند الخورنق)  (وعن هارون بن عنترة عن أبيه قال: دخلت على علي بن أبي طالب في الخورنق وهو يرتعد من البرد تحت سمل قطيفة - السمل: الخلق والقطيفة : دثار مخمل ، فقلت : يا أمير المؤمنين، إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال وأنت تصنع بنفسك ما تصنع؟ فقال: ما أرزؤكم من مالكم، وإنها لقطيفتي التي خرجت بها من المدينة)  (في عام 105هـ اجتمع الخوارج في قصر الخورنق وأمروا عليهم مصعب بن محمد الوالبي ولما ولي هشام بن عبدالملك استعمل على الكوفة خالد القسري وطلب منه قتال الخوارج)  و(وفي سنة 690-691م قام الخليفة الاموي عبدالملك بن مروان بزيارة الكوفة وأولم وليمة كبيرة لاهلها كان قد أعدها عمرو بن حريث في قصر الخورنق ابتهاجا بمقتل مصعب بن الزبير ثم جاءت الموائد فأكلوا فقال عبد الملك ما ألذ عيشنا لو أن شيئا يدوم ولكنا كما قال الاول :

 وكل جديد يا أميم إلى بلى      وكل امرئ يوما يصير إلى كان

فلما فرغ من الطعام طاف عبد الملك في القصر يقول لعمرو بن حريث لمن هذا البيت ومن بنى هذا البيت وعمرو يخبره)  (كما قصد الخورنق الخلفاء العباسيون بغية الاستمتاع بطبيعة اجوائه ومنهم ابو العباس السفاح وابو جعفر المنصور وهارون الرشيد)  (حيث اتخذه الخلفاء موضعا ينزلون فيه أثناء خروجهم للصيد. وفي ذات يوم خرج ابو العباس السفاح ومعه جماعة الى قصر الخورنق وتناولوا الطعام فيه)   أما ابن بطوطة في رحلته فيقول (وخرجنا من مشهد علي عليه السلام، فنزلنا الخورنق، موضع سكنى النعمان بن المنذر وآبائه من ملوك بني ماء السماء، وبه عمارة وبقايا قباب ضخمة في فضاء فسيح على نهر يخرج من الفرات ثم رحلنا عنه فنزلنا موضعاً يعرف بقائم الواثق، وبه أثر قرية خربة ومسجد خرب لم يبق منه إلا صومعته)  ويحكي المسعودي ( ان ابا طاهر زعيم القرامطة نزل الموقع المعروف بالخورنق في أوائل كانون الاول سنة 927م ونزل ابن ابي الساج في اليوم الثاني بالقرب منه في الموضع المعروف بين النهرين مما يلي القرية المعروفة بحروراء ولم يلبث ان نشبت المعركة بينهما انتصر فيها القرامطة الذين ساروا بعد ذلك من طريق الكوفة الى الانبار . وبين النهرين- من غير شك هو السهل الفيضي الضيق بين نهر الخورنق والفرات في الوقت الحاضر)   اما  حروراء كما نستنتج من النص فتقع مقابل الخورنق من جهة الشرق قريبا من الفرات النازل من الكوفة باتجاه مدينة ابوصخير.

مصير القصر في العهد العثماني وما بعده  

 

 كان قصر الخورنق عامرا في عهد الدولة العثمانية تحت تصرف ومسؤولية ادارة السنية وراحت هذه الادارة عام 1908م الى الاصلاحات في الحيرة فوجدت من الضروري ان تنشيء دارا كبيرا للحكومة –سراي- وفضلا عن مخزن للأطعمة الاميرية في ابو صخير فما كان امامها الا ان تهدم قصر الخورنق وكان حينها شاخصا بأثره وجاءت بأحجاره الى ابوصخير) 

 ان توسع المراكز القديمة كالنجف والكوفة الذي أدى بدوره إلى قلع البقية الباقية من الآجر من أبنية الحيرة  وبعدما شهد الخراب التام قال عنه الشاعر محمد علي اليعقوبي قصيدة مطلعها

وقفت على الخورنق وهـــــو   ساق الغيث من ربع تعفى

وما تركت سواقي الريح منه   سوى آثار رسم كاد يخفى) 

 يقول المستشرق النمساوي الواموزيل (يبلغ طول خربة الخورنق من الشمال الغربي الى الجنوب الشرقي ستين خطوة وهي مستديرة الشكل من جهتها الجنوبية الغربية وقد اخذت جميع مواد البناء الصالحة فيها او انها تؤخذ الآن وتنقل- سنة 1915م والمنظر الطبيعي جميل في هذه المنطقة فالى الغرب تشاهد مرتفعات صفراء تعلو في صحراء مقفرة0والى الشمال والشرق مجموعة اكواخ صغيرة وكبيرة  تظللها اشجار نخيل باسقة واشجار صفصاف وارفة)  و(جاء في دليل المملكة العراقية الصادر عام 1935م ان اطلال الخورنق شاخصة حتى اليوم بالقرب من الحيرة وبينها وبين النجف)  (وفي عام 1966م تعرض موقع الخورنق الى عمليات حفر اخرى غير مشروعة لغرض الاستفادة من ملتقطاته والاستفادة من آجره ونقلت الكثير من اتربته للاستفادة منها في انشاء طريق شامية - ابوصخير

سرقة القى الاثارية و الملتقطات من موقع القصر

 

واستغل بعض الاشخاص هذه المناسبة فسرقوا العديد من التحف الاثرية التي تظهر أثناء رفع الاتربة وللأسف ان الجهات المسؤولة لم تسترد منهم الا مجموعة قليلة مما نهبوه وهي 27 جرة فخارية بين كبيرة وصغيرة وأكثرها مزجج والبعض منها يحتوي كتابات قرب الفوهة و16 قارورة زجاجية مختلفة الاحجام وقلادة تتكون من مجموعة خرز حجرية زجاجية وثلاثة اغطية فخارية كبيرة و4 قطع ذهبية صغيرة ومجموعة وافرة من الفخار المكتوب المزين  بالحزوز واناء معها كتب بداخله بالحبر الاسود)  ونقل لي بعض كبار السن في المنطقة ان بعض حجارته الكبيرة الحجم نقلت من موضعه وبني بها بعض آلات رفع الماء (النواعير) للمزارعين الذين بضواحي القصر  في اربعينات القرن الماضي (وفي صيف 2001م اعلنت البعثة الآثارية العراقية عن نتائج تنقيباتها في موقع ابو صخير الاثري- الحيرة القديمة باكتشاف 467 قطعة أثرية كشفت عن اسرار غامضة تتعلق بدولة الحيرة وقصر الخورنق وبحسب المصدر تم التأكد من مكان القصر من خلال وجود المقبرة التي تسمى مقبرة المنذر وهي مقبرة العائلة المالكة وتقع ضمن محرمات قصر الخورنق) 

الباحث في موقع قصر الخورنق

 




زرت  مكان قصر الخورنق يوم 2 رمضان سنة 1434هجرية الموافق 11 تموز   2013  ميلادية الساعة العاشرة والنصف صباحا بسيارة نوع دبل قمارة وكان برفقتي الاستاذ الشاعر فاضل عبدالقادر اسماعيل البياتي نائب رئيس المجلس البلدي في مدينة ابو صخير وموظف المجلس البلدي نجاح عبد زيد حسن الفتلاوي كنا صائمين وكان الجو ملتهب الحرارة وكنا في حالة عطش شديد . وبعد اسئلة واستفسارات محرجة تم العثور على مكان القصر وسط مجموعة من الدور السكنية ذات البناء العشوائي في قرية تسمى الثواير وعلى بعد 750  متر من مكان القصر وجدنا حفر كثيرة بعمق متر واحد وهي محاولات قام بها سراق الآثار لنبش أماكن أثرية وعلمنا ان مديرية الآثار العامة منعت بناء الدور السكنية في المنطقة وكان هذا الامر محل استنكار وتذمر أهالي المنطقة الذين ناشدونا العمل لتحقيق الفرج والسماح لهم بالسكن في هذا الاماكن مما أثار ألمنا العميق ولكننا وعدناهم بالعمل لتحقيق امنياتهم.

موقع القصر الان

 

 أما مكان قصر الخورنق نفسه فقد انتهت تسمية قصر الخورنق تماما من المكان ولأجل احترام الروايات التاريخية نسميها تلول الخورنق وهي عبارة عن مرتفع من الارض مساحته حوالي 600 متر مربع مكون من مجموعة من التلول بأبعاد مختلفة الارتفاع وفي وسط التلول منخفض نسبي من الارض يبدو انها بقايا باحة القصر وتطل هذه التلول بعلوها الشامخ نسبيا على منخفض واسع ومفتوح الافق من النخيل من جهة الغرب . ودور سكنية منخفضة من جهة الشمال ومن جهة الشرق مساحة خالية حوالي 600 متر ثم بيوت منخفضة وعشوائية. وقد حاولنا العثور على اسس القصر ولم نجد لذلك اثرا . وبصعوبة بالغة وجدنا طابوق متكسر احمر اللون قديم رث عرفنا وتأكدنا انه من بقايا القصر القديم . ثم جاء قسم من افراد القرية وتحدثت لهم عن بعض الصفحات التاريخية لهذا القصر الذي يسميه أبناء القرية قصر النعمان.  

 

أحدث أقدم