لماذا تغيب ثقافة استطلاعات الرأي العام بشأن الانتخابات؟


  

الدكتور صفد الشمري*

لماذا تغيب ممارسات استطلاعات الرأي العام الموسعة قبل الانتخابات العراقية، في وقت تحرص فيه العمليات الانتخابية على مستوى العالم على العناية بها ودعمها، في مسعى أن تحظى بأكثر قدر من المقبولية والتماس والتواصل مع جمهور المقترعين؟.
وهل تتعمد وسائل الإعلام الفاعلة والوسائط الرقمية المتعمدة المؤثرة عدم الاهتمام بنتائج أي استطلاع من هذا القبيل انتجته مراكز الدراسات والمنظمات المجتمعية العراقية، حين تراها تنوه بنتائجه بشكل مقنن للغاية يكاد يكون لا يذكر، عبر نشاط إخباري مقتضب بأفضل الأحوال، لا تعقبه أية معالجات أو تفسيرات تقدمها شروحات المختصين للمقترعين؟
الاستطلاع.. شفافية
واحد من أبرز تحديات نشر ثقافة استطلاع الرأي العام قبل الانتخابات العراقية يكون في عدم القدرة على التمييز بين الترويج الانتخابي، وبين مبدأ شفافية نتائج الاستطلاع، الذي يمكن ان يهيئ لمزاج انتخابي واعٍ بعيداً عن ذاك الذي تم تشكليه من مصادر ثانوية شكلت للأفراد تصوراتهم عن المرشحين أو ما يمكن له ان تؤول العملية الانتخابية إليه من نتائج قد لا تتفق مع توجهاته، الأمر الذي قد ينزله في صراع التردد بالمشاركة فيها، استجابة لرسائل التحريض المتعددة، ذاتية كانت تختص ببنيته النفسية، أم خارجية ضمن مرجعيته الاجتماعية والسياسية!.  
استطلاعات الرأي العام أخذت تنتشر بعدّها ثقافة ديمقراطية في العالم قبل أية انتخابات، ويقول فرانك بريتشنايدر الناشر والباحث في شؤون الاستطلاعات بتصريحات للصحفيين انه: {منذ العام 1980 الى اليوم فقد تضاعف عدد الاستطلاعات وأيضاً التغطية الاعلامية لها 14 ضعافاً}، الأمر الذي يعكس عناية العام بتلك الاستطلاعات على مستوى العالم، إذ تكاد الممارسات الانتخابية الشفافة جميعها يهيأ لها إجراء مثل تلك الاستطلاعات، بصرف النظر عن مدى دقة نتائجها، وان كانت نتائج فرز الأصوات ستتفق مع نتائجها بشكل تام أو جزئي مع نتائج أرض الواقع!
وإلى جانب المنافع التقليدية التي يمكن تجنيها ممارسات استطلاعات الرأي العام قبل الانتخابات، فان نشر نتائجها يفيد بعض الأفراد ممن لم يتخذوا قرارهم ازاء أفضلية معينة نحو مرشح أو كتلة بذاتها كما يكون نافعاً مع الذين لم يحسموا قرارهم بعد ازاء الذهاب الى مراكز الاقتراع أصلاً، ومنه ما يمكن ان يحصل معنا في العراق، ويتمثل تفسير هذا العامل بموجب دراسة استطلاعات الرأي العام وتأثيرها في العملية الانتخابية، بميل الفرد نحو الاعتقاد بأن نتائج الاقتراع التي اتجهت لدعم مرشح بذاته ما كان ليحصل عيها لولا صلاحيته للمنصب المرشح إليه، وان نتيجة الاستطلاع والمعلومة، التي حصل عليها الناخب المتردد تكون بمنزلة مؤشر للتنبيه بتقليل تردده ودفع رأيه الخاص نحو الادلاء بصوته نحو الوجهة ذاتها.
ومن هنا يزيد شيوع نشر نتائج استطلاعات الرأي العام، واتساع تناولها من طرف وسائل الاعلام والوسائط الرقمية المؤثرة في مجتمعاتها نحو جموع المقترعين، حين اتاحت لهم فرص عقد الفروق الاجتماعية والسياسية بين الخيارات المتاحة، وأطلعهم على الآراء والمواقف التي استحوذت على الاجماع العام، ووفّر لهم إمكانية الافصاح عن آرائهم الخاصة بين المواقف المعلنة باعتبارها مواقف اتفاق عام الى حد ما.
 
انطلاقة الفكرة
يتم النظر إلى الرأي العام على انه {اتجاه فكري يشترك فيه أكثرية أفراد الجماعة في المجتمع الكبير فى وقت معين بالنسبة لموضوع خاص أو مشكلة قائمة أو قضية مهمة، أي انه حكم أكثرية الجماعة على فكرة أو قانون أو قضية.. ويكمن الفرق بين الاتجاه والرأي العام في أن الأول أكثر اتصالاً بميول الفرد نفسه بينما الرأي العام يبيت متصلاً بأكثرية الجماعة، كما أن الاتجاه أكثر ثباتا في مقابل الرأي العام الذي يكون قصير العمر نسبياً}.
وتمارس وسائل الإعلام التقليدية والوسائط الرقمية المتعددة المؤثرة مهام نقل وجهة نظر إلى المتلقي ومحاولة إقناعه بوساطة أساليب متعددة أهمها اختيار الآلية المناسبة للطرح والتوقيت والمؤثرات المقبولة لتقبل وجهة النظر، ضمن محاولات حشد التأييد لوجهة النظر تلك، وقد يصل إلى عده محاولة تغيير واقع موجود بفرض واقع بديل، عن طريق الضغط المكثف المؤيد لحلول الواقع المفتعل.
وتنوّه الدراسات المختصة بمجموعة من العناصر التي يرتكز عليها الرأي العام، تتمثل ببنية الجماعة ذاتها في أفرادها وأهدافها ونوع القيادة ومستوى وسائل الإعلام والوسائط الرقمية المؤثرة، ونشوء مشكلة عامة أو قضية عامة مثل الحروب أو الكوارث أو الاستحقاقات الانتخابية، وإدراك أبعاد القضايا وأطراف المشكلة وشعور الأفراد بها وأثر ذلك في مشاعرهم وتفكيرهم، وظهور المقترحات والآراء وقيام المناقشات حول الأهمية وطرق العمل، إلى جانب اتفاق جماعي ليكون الرأي العام وسطياً بعيدا عن التطرف قدر الإمكان، وبذا فان الرأي العام يمكن ان يتغير بطريقتين اثنتين، تتمثل الأول بالموضوعات التي تركز عليها، والأخرى في كيفية التناول أو المعالجة.
ويمكن تلخيص مراحل نشوء الرأي العام بشكل عام بنشأة المشكلة أو القضية أو الموضوع وإدراكها ومناقشتها بالشكل الذي يفضي إلى بزوغ الاقتراحات مع صراع الآراء لحين بلورتها تبلور بالاتفاق على الرأي الأكثر اعتدالاً من وجهة نظر الجماعة، أو يجري تسويقها إعلامياً أو إلكترونياً على انها الأكثر وسطية ومقبولية، وتكون مخرجات الرأي العام بالنهاية إلى سلوك معلن.
ومن هنا.. يجري الحديث عن علاقة متبادلة بين كل من الرأي العام والإعلام والوسائط الرقمية المتعددة، إذ يؤثر كل منهما في الآخر ويتأثر به، فالرأي العام يؤثر في محتوى الرسالة الاتصالية، فوسائل الإعلام والأوعية الرقمية تعرض القضايا الاجتماعية والثقافية بما يتفق مع رغبات القراء والمستمعين وتوقعاتهم.
أما بالنسبة لتأثير الإعلام والسائط الرقمية في الرأي العام وتشكيله، فهناك بحوث تجريبية كثيرة أشارت إلى هذا الموضوع، وجميع هذه البحوث قد ركزت على عدد من العوامل التي تحدد العلاقة بين تأثير بين الطرفين، وهي التأثير المتوقع والعوامل المختلفة الداخلة في عملية الاتصال، ووسيلة نقل هذه الرسالة الإعلامية او الرقمية ونشرها على الجمهور، والظروف المحيطة على المستوى الاجتماعي والثقافي، ومصدر الرسالة الإعلامية أو الرقمية أو الذي يتحكم فيهما، ومحتوى تلك الرسالة ومضمونها، والهدف المقصود منها، وطبيعة الجمهور المستهدف بها.
 
مناهج النشأة
يمثل التراث الحضاري والثقافي من أهم العوامل التي تؤثر في تكوين الرأي العام وتشكيله إذ لا يمكن لأي فرد في أية مجموعة ان ينأى بنفسه عن التأثر بقوى العادات والتقاليد والتاريخ والقيم السائدة، ولا شك أن الصلة بين الاتجاه والرأي مترابطة، فالرأي العام في أحيان كثيرة هو تعبير عن اتجاه نسبي الثبات يصدر منسقاً مع اتجاهات الأفراد التي تعد ثمرة العناصر البيئية والطبيعية والاجتماعية التي تحيط بهم.
وقد أشارت دراسات إلى ان قرابة 90 % من سلوك الفرد العادي في مجتمعه يتم انتهاجه بما تفرضه النظم والقواعد التي بدأ بتلقيها منذ نشأته، كما أن وراء الصراع والخلاف بين الأفراد والأسر والجماعات ذات النفوذ والأديان والمذاهب أساسات تتكون من الخصائص المشتركة المستمدة من الثقافة السائدة في المجتمع، ويتم تكوين الرأي العام نتيجة تفاعل عدة عوامل اجتماعية وسيكولوجية.
وبموجب المختصين فان هناك كثيرا من العوامل التي تتدخل في تكوين الرأي العام ومنها الزعماء السياسيون وقادة الرأي والمصلحون الاجتماعيون ومن هم على شاكلتهم، من الزعماء والقادة الذين يكون لهم تأثير في الرأي العام، إلى جانب التراث الحضاري للأمة، بما يحتوي عليه من العادات والتقاليد والقيم المتوارثة والآداب الشائعة في المجتمع، إذ تتقبل الشعوب موروثاتها الثقافية بخيرها وشرها على أنها حقائق وبديهيات وقيم لا تقبل النقاش وإبداء الرأي فيها.
ولا يجب تغــــــييب العـــــــــــــــوامل الاجتماعية والاقتصادية، حين تختلف المجتمعات في الآراء، بحسب مجتمعاتها فالريفية أكثر تمسكاً بالقيم والأعراف من المجتمعات المدنية الصناعية، ناهيك عن الثورات والتجارب الوطنية والدولية، إذ تؤثر تلك التجارب في الرأي العام ويشمل ذلك الحروب والكوارث وغيرها.
ومن بين العوامل الساندة ما يرتبط بالتربية والتعليم، حين تمارس المناهج دوراً كبير في تشكيل الرأي العام وذلك لامتدادها لفترة طويلة تبدأ من الطفولة وحتى ما بعد الشباب، والمناخ الاقتصادي الذي ينوّه بالتفاوت في الثروة الذي قد يؤدي لانقسامات في الرأي العام بحيث يكون لكل طبقة رأيها، والمناخ السياسي التسلطي سبب في انعدام الرأي والتضامن وبالتالي انتشار الفتن، والمناخ الثقافي والإعلامي والرقمي الذي يؤثر بصورة كبيرة جدا في تكوين الرأي العام، والمشكلات اليومية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأوضاع الدولية القائمة.
وهناك من يؤكد أن العقيدة الدينية تكون من أقوى العناصر المؤثرة في الرأي العام وتوجيه الأمم، إلى جانب الأوضاع القائمة للدولة بالمجمل من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك، والعوامل الطبيعية من الموقع الجغرافي والبيئة والمناخ.
ويجري تمييز ما يطلق عليه بالعوامل النفسية، متمثلة بالخواص النفسية والعقلية المرتبطة بالتفكير، إذ يميل العقل البشري إلى الاستعانة بمجموعة من الخواص التي تستخدم بواسطة أجهزة الدعاية المسيطرة على العقول وتشكيل الرأي العام وتتمثل هذه الخواص في التالي {الترميز والتنميط والتبرير والإسقاط والتعويض والتقمّص}.
إلى جانب التركيز على نظرية الدوافع والحاجات المتحكمة في السلوك مجموعة دوافع أساسية تعمل على السيطرة على عقول البشر وسلوكياتهم وهي تتمثل بالدوافع البيولوجية والدوافع الاجتماعية، وهذه العوامل لا تعمل منفردة في تكوين الرأي العام في المجتمع، وكل عامل جدير بالدراسة لقياس أثره على الرأي العام المحلي أو القومي أو الدولي كما، أن الرأي العام يؤثر في العوامل السابقة كما يتأثر بها.
 
الحاجة للاستطلاع!
هذا كله، يصب بنتاج رئيس، هي ان استطلاعات الرأي العام قبل الانتخابات العراقية صارت ضرورة لمنافع عدة،  نوهنا بها عبر نقاشنا لأهمية إرساء تلك الاستطلاعات ثقافة لدى جمهور المقترعين في البلاد لما يمكن ان تحدثه بتعزيز القناعات أو تغييرها، وبها شديد الحاجة لدعم وسائل الإعلام الفاعلة والوسائط الرقمية المؤثرة، لدفع العملية الانتخابية على وفق المسارات الصحيحة.
 
* خبير التواصل الرقمي
نشرت في جريدة الصباح 
أحدث أقدم