مشكلة العراق والحرس القديم


نبيل  ياسين

كيف يستولي الحرس القديم على مفاهيمك ويصادرها  لصالحه من الديمقراطية الى المدنية والمجتمع المدني والتنوير وحقوق الانسان 

نشرت ربما عام ١٩٩٧ او ١٩٩٨ مقالا في جريدة الحياة الدولية في لندن  عن تحول الحرس القديم  Old Guard

 من الحزبيين الذين انتهكوا حقوق الانسان الى تأسيس منظمات وهيئات لحقوق الانسان ، كانت مفاهيم حقوق الانسان قد راجت عبر تبشير  وتمويل اميركي


وأوروبي  وتولى عدد من الحرس القديم ( الحرس القديم مصطلح  أطلقه نابليون على تشكيل عسكري اختاره من الضباط  المخضرمين في الحرس الإمبراطوري ، وكان يعتبر أكثر تشكيلات الجيش بتمتعه بامتيازات استثنائية 

‎استفاد أعضاء الحرس القديم من امتيازات مختلفة، حيث كانت أجور الجنود أعلى من كل الوحدات العسكرية في الحرس الإمبراطوري لنابليون، 

‎حل الحرس القديم على يد التحالف السادس في عام 1814 مع بقية الحرس الإمبراطوري، ومن ثم أعيد تشكيلة خلال عودة نابليون من المنفى في عام 1815 وخاض معركة واترلو


‎، وفي شهر أغسطس من عام 1815, أمر ليوس الثامن عشر بإلغاء الحرس الإمبراطوري وفي شهر ديسمبر تم حل كل أفواج الحرس القديم، وانتهى الأمر بالحرس السابقين بأن انخرطوا في أمكان مختلفة بعد حل وحداتهم، وقد تم تنجيد بعضهم في جيش الملك، 


‎، وعندما عاد جثمان نابليون إلى فرنسا في عام 1840 , استعرض الكثير من أعضاء الحرس القديم الذي مازالوا على قيد الحياة مرتدين بزاة عسكرية  رثة) 

‎تستخدم عبارة "الحرس القديم" في الوقت الحاضر في فرنسا وغيرها من الدول  عند الحديث عن الأتباع القدامى لسياسي معين وهي تحمل معنى أقل ما يقال عنه أنه يدل على التحقير، ويتم أيضا تداول هذه العبارة بكثرة في أوساط الصحفيين السياسيين

‎كثر في الآونة الأخيرة استخدام عبارة «الحرس القديم» خاصة في الدول العربية التي تشهد ثورات شعبية، ويقصد بهذا التعبير كبار المسئولين الذين ظلوا فترة طويلة في العمل السياسي حيث عرف عنهم عدائهم ورفضهم لمشاريع الإصلاح وإقصاء الجيل الصاعد من ممارسة العمل السياسي

وهو ماحدث في المعارضة العراقية بعد عام ١٩٩٠ حيث عاد الحرس القديم من الاحزاب في السلطة وخارجها ممن انتهك حقوق الانسان فعاد ينادي بحقوق الانسان وممن انتهك واحتقر الديمقراطية لينادي بالديمقراطية وممن أنكر المجتمع المدني لينادي بالمجتمع المدني ويؤسس بمساعدة امريكية منظمات مجتمع مدني هي في الغالب منظمات   مجتمعات سياسية حزبيةومغلقة وفاسدة وواجهات لاحزاب وتنظيمات سياسية  وحولوا المعارضة الى ميدان لتسابق اعضاء الحرس القديم من مختلف الاحزاب فيما بينهم ليبقوا في مواقع جديدة وبموارد جديدة ومنافع وامتيازات ثمنها الاخلاقي والسياسي باهض ،  دون ان يعتذروا عن افكارهم ومواقفهم الشمولية والديكتاتورية المستبدة وتحول كثير منهم من الولاء للكرملين الذي سقط آنذاك ومن نظام صدام المتدهور الى البيت الابيض  اصبح يوزع الاموال بشروطه وطلباتة

تغير الحرس القديم في ملابسه ولكنه لم يتغير في تفكيره، فهو سرق ( شعارات ) الديمقراطية ولكنه بقي ديكتاتوريا في تفكيره وسلوكه وانتهازيته ، وكثير منهم صار يقوم بتزوير التاريخ ليعطي لنفسه اهمية وموقعا مختلفا يقوم من خلاله بمسح تاريخه واختراع تاريخ مزور له ، لايهمه فيه التناقضات والأخطاء التاريخية والجهل بالحداث، فمثلا يقوم ( مؤرخ) التحق بالشيوعية متاخرا بعد ٢٠٠٣  ليقدم شخصا على انه عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الذي اصطف مع سلام عادل  اصطف مع سلام عادل لاسقاط عبد الكريم قاسم، في حين ان هذا الشخص صديق قريب لي وحين سألته متمما وبمحبي كم كان عمرك عام ١٩٦٠ قال احد عشر عاما ورويت له ماسيراه المؤرخ العجيب ضحكنا ضحك طفلين معا ، بينما ( يؤرخ) بعثي كان يلقي محاضرات على امن صدام لكسر شوكة المثقفين غير البعثيين،  ، على هواه  ويزور التاريخ والاحداث والوقائع ويخفي الحقائق المخزية عنه، وتحل الكارثة حين يعتبر الاخرون ان ما كتبه تاريخ صادق فيعقدون تسويقه بينما يختفي التاريخ الحقيقي


يتمتع افراد الحرس القديم بالقدرة على ممارسة الانتهازية فهو ينسى تاريخه وبدلته الزيتوني وقصائده او قصصه عن قادسية صدام ثم ( يقفز) الى حزب الدعوة او الحزب الشيوعي او الحزبين الكرديين ويصبح نائبا او وزيرا او متحدثا رسميا او صحفيا او مقدم برامج او ( مفكرا) يلهج بأكاذيب جديدة بمباركة من الاحزاب وامريكا ودول اخرى لان المطلوب هو وجود انتهازيين  يجيدون اللعب على حبال السيرك فالذي يتحول من الاتحاد السوفياتي الذي انهار الى الولايات المتحدة في ثلاثة ايام بدون معلم 

ويصبح من دعاة الديمقراطية وحقوق الانسان الجدد بتمويل امريكي وهو مطمئن الى انه ( ديمقراطي ومدني وليبرالي ) بصوت عال وحماسة ساخنة ، اما العراقيون فهم في خياله البعيد باعتبارهم همجيّا ورعاها او متدينين متخلفين لا ينتسبون مكانته الجديدة

ومثلما يدل مصطلح الحرس القديم في فرنسا على التحقير فانه يدل على نفس المعنى في العراق وبقية الدول العربية التي تنقلب فيها الاوضاع ويعود الحرس القديم الى مواقع جديدة كما هو الحال الذي جرى في مصر بعد سقوط مبارك حيث تمت تسميتهم ب ( الفلول)  فهم يصادرون الوطن والوطنية ليبقوا في مواقعهم وامتيازات ، اما في العراق فان الحرس القديم لصدام عاد ليسيطر على مواقع الحكم من جديد سواء الحرس القديم السياسي او الحرس القديم العسكري او الحرس القديم الاعلامي والأدبي او الحرس القديم الجامعي الذي كان يدرس افكار صدام فصار يدرس إفكار الديمقراطية  وهكذا يبنى العراق بحجار الحرس القديم النتن   والجائف، وتحول شعراء صدام وابنه عدي الى شعراء الديمقراطية وصحفي

كثير من العراقيين محرومون من الوطنية كرها لا طوعا.  فالعلم يفرض من الحاكم في كل  مرة ويتغير بين لحظة واخرى فلا يزتبط العراقي بعلم ثابت ومستقر ويمثل وطنية المواطن  وانما  يمثل الحاكم  الفرد ونزواته الايديولوجية . فقصةًتكليف احد اعضاء مجلس الحكم لاخيه بتصميم علم جديد للعراق دون الاخذ بنظر الاعتبار دراسة خلفيته وعناصر ورموز الوطن وتاريخه ومعانيه فصمم الاخ علما اثار امتعاض وسخرية الناس وجاءلنا البرلمان بعلم صدام برمز ديني دون نجماته الثلاث . ومثل  الوطني فهو غاليا مايكون ممثلا لايديولوجية الحاكم  وهو كذلك غير مستقر ولا يرسخ الوطنية . ولنشيد موطني قصة هي مفارقة فكاهية  اخبرني بها  احد اعضاء مجلس الحكم حين انتبه الحاكم الامريكي برايمر في لحظة  الاعلان عن مجلس الحكم  الى ضرورة ان يعزف السلام الوطني.  ولما كان السلام الوطني في عهد صدام يتناقض مع ما اسموه( العراق الجديد) ، ارسل عضو مجلس الحكم شخصا الى مبنى الاذاعة ليأتي بأي سلام فبحثوا وعثروا على ( موطني) ، وهكذا صار نشيد المدارس هذا نشيدا وطنيا ، ومثله العلم الذي تحول الى ازمة فقد طلب احد اعضاء مجلس الحكم ارتجالا ، من اخيه ان يصمم العلم العراقي الجديد فأرسل بعد يومين علما تم رفضه لانه يشبه العلم الاسرائيلي، كل شيء ارتجال ورغبات فردية حتى اليوم، قوانين تصدر منطلقة من ايديولوجيات ورغبات مريضة تعتقد ان العراق ملكها الحزبي او الشخصي ، وهذه هي عقلية الحرس القديم، فحتى لو تغير الاشخاص فان عقلية وثقافة الحرس القديم باقية دون تغيير

أحدث أقدم