العراق وحشيشة الانتخابات

 بتفق فلاسفة العقد مثل هوبز ولوك وروسو على أن السلطة السياسية لا يمكن أن تصدر إلا عن القوة أو الرضا. وبما أن العقل لا يقبل إلا الحل الثاني فإن هيغل اندفع ليقول، إن الدولة هي ما يقبل بها مواطنوها، وعلى هذا المعيار تأسست دول ديمقراطية تقوم على العقد والرضا.



منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة قبل مئة عام بالضبط، وحتى عام 2003 لم يكن الرضا واردا من المجتمع على نظام حكمه. وبغض النظر عن ذريعة الولايات المتحدة عن أسلحة الدمار الشامل، فإن واشنطن وحليفتها بريطانيا بشّرا بأن الديمقراطية هي البديل عن نظام صدام الديكتاتوري.. وكان على معظم العراقيين تصديق ذلك، ولكي يصدقوا ذلك أكثر قامت أمريكا بكتابة دستور يكون هو العقد الاجتماعي للعراقيين. وحتى الدستور الذي تم الاستفتاء عليه في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2005 وبعد أن خضع لتعديلات عراقية ذات توجه ديني أصبح (قبول العراقيين) بالسلطة على أنهم مصدر السلطات، كما ورد في المادة الخامسة من الدستور. كان هذا القبول يقتضي إجراء انتخابات عامة لتحقيق جوهر العقد الاجتماعي الجديد، الذي يجسد رضا العراقيين عن النظام السياسي الذي يحكمهم.

لكن كيف تحولت الانتخابات إلى (حشيشة) يتم تناولها كل عام وتصل ذروة تأثيرها في السنة الرابعة، حيث تجري الانتخابات. فمن الواضح أن الانتخابات لا تعني الديمقراطية، فكل نظام ديكتاتوري تقريبا يجري انتخابات لا تسفر سوى عن (قبول مزيف) يصادر الإرادة العامة، والانتخابات هي تجسيد للإرادة العامة.

الانتخابات العراقية لا تسفر نتائجها عن أغلبية وأقلية، إذ بعد ذلك يبدأ سباق مضن وطويل (كما حدث عام 2010) لتوزيع الحصص والمغانم، وفق نتائج الانتخابات سواء كانت مزورة أم (مزورة) بطريقة ما، فحتى المنظمات الدولية اشتركت في تزويرها وإخراج نتائجها وإفساد القضاء بإقرارها.

 

تحولت الانتخابات إلى (بازار) تصدرته عمليات بيع وشراء مبكرة للمناصب وبشكل علني، ما يحول الانتخابات إلى عملية خداع مكشوف

 

بسبب فداحة الاستبداد رحب العراقيون، بفكرة الديمقراطية لأول مرة، وبنوا آمالا عظمى تماما وتصوروا أن (التبشير) الأمريكي بالديمقراطية سيحول العراق إلى يابان أخرى، وإلى ألمانيا ثانية. ولم يكونوا يتخيلون، ولو للحظة، أن إيران تدعو إلى نظام ديمقراطي في العراق، من خلال نموذج ولاية الفقيه، أو نظام الحسبة، أو ولاية الأمة على نفسها، كما في الفقه الشيعي العراقي، مثلما دعت أمريكا إلى الديمقراطية فأنتجت منها الديمقراطية الانتخابية فحسب، دون المبادئ الأساسية الأخرى للديمقراطية. لقد أقرت الإدارة الامريكية في العراق منذ عام 2003 الرواتب والامتيازات المالية والعقارية الفاحشة للطبقة السياسية الحاكمة ووزعت على أفرادها عقارات الدولة والمسؤولين السابقين في نظام صدام، ما جعل الطموح للالتحاق بهذه الطبقة والتمتع بامتيازاتها هدفا لكل فرد، وقد شهدت دورات سابقة، وهذه الدورة بشكل صارخ، إقدام أفراد بدون مؤهلات أو تاريخ سياسي أو اجتماعي، حيث شهدت هذه الدورة ترشح أدباء وصحافيين ورياضيين وعاملات صالونات حلاقة، وباعة مفرد، ومعلقين تلفزيونيين ومدعي النشاط المدني، حتى أن كثيرا من الحملات الانتخابية شهدت إطلاق المرشح أو المرشحة للنار من مسدسه أو مسدسها، ووعود بحلق شوارب من يختلف معهم. وخلط معظمهم وهم يطلقون وعودهم بين وظائف السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، فأخذوا يستخدمون أملاك الدولة مثل، التراكتورات وسيارات النقل في تبليط أمتار مع وعود بتبليط الشارع، بعد الفوز في الانتخابات، في سذاجة سياسية مزرية وفي رثاثة تحقق الدولة الفاشلة، ولذلك فإن أمريكا هي من تتحمل ما آل إليه الوضع المزري في العراق.

دخلت العشيرة على خط الانتخابات، فأصبحت ترش زعماءها وابناءها إلى الانتخابات، مستفيدة خاصة من التعديل الجديد على قانون الانتخابات باعتماد الدوائر المتعددة، ما سمح لكل عشيرة بأن ترشح في موطنها القبلي، على أنه دائرة انتخابية وفق تعديل القانون من قبل البرلمان في الرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر عام 2019 بعد التظاهرات الحاشدة في أكتوبر من ذلك العام، وظل القانون في أدراج رئيس الجمهورية للمصادقة عليه بعد أحد عشر شهرا في أكتوبر عام 2020، ورغم أن القانون كان استجابة لمطالب مئات الآلاف من المتظاهرين والاحتجاجات الكبيرة التي رافقت التظاهرات، إلا أن أملا ضعيفا بالتغيير الذي يمكن أن يحصل، رغم أن جوهر قرارات الفصل السابع، الذي تم إخراج العراق منه شكليا، خاصة تلك المتعلقة بإعادة إعمار العراق وتحقيق سيادته واستقراره ووحدة أراضيه، قد يبقى تبريرا لتقسيم العراق إلى 83 دائرة انتخابية، تكرس بدورها الطائفية والمناطقية والعشائرية، وتكرس المحاصصة بشكل أعمق وتساعد على انتشار الفساد. فالامتيازات الخرافية التي يحصل عليها الفائزون، وضعف شروط الترشيح، وانعدام التاريخ السياسي للمرشحين وعدم وجود ثقافة سياسية وإدراك للمسؤولية لا يحقق سوى المفهوم الأمريكي في العراق، المعنون منذ مؤتمر لندن للمعارضة نهاية 2002 بـ(ديمقراطية منخفضة الحدة) الذي يجعل الأمل بالتغيير والتطور يتضاءل، خاصة مع تفاقم التجاوزات وخرق القانون واستخدام الرشى، وشراء البطاقات البايومترية من الناخبين (التي لا تزور حسب الادعاء) بطريقة علنية ووقحة، وإطلاق تصريحات بعيدة عن اللياقة السياسية والاجتماعية، وبعيدة عن الشعور بالمسؤولية، بحيث تحولت الانتخابات إلى (بازار) تصدرته عمليات بيع وشراء مبكرة للمناصب بملايين الدولارات الأمريكية، وبشكل علني، ما يحول الانتخابات إلى عملية خداع مكشوف فضلا عن التزوير الشائع الذي تساهم فيه حتى بعض المنظمات الدولية لمراقبة الانتخابات وفق حسابات سياسية إقليمية ودولية.

كاتب وأكاديمي عراقي

أحدث أقدم